الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية رجالات من زمن الكفاح: الـمشـروع الحداثي التقدمي للحبيب بورقيبة

نشر في  18 نوفمبر 2015  (11:10)

إن في سجل تاريخ حركتنا الوطنية أعلاما بارزين كانوا في طليعة أبناء تونس البررة، اختاروا نكران الذات مبدأ، ومهجة البذل والعطاء منهجا وسلوكا، فأثروا النضال في سبيل تحرير الشعب ولم يتوانوا عن طلب الشهادة حبا للوطن وذودا عن حماه.. بحيث كان لهم الفضل الكبير في بناء الدولة التونسية الحديثة التي ننعم باستمرارها الى حد اليوم. ومن بين هؤلاء الرجالات نستهل حديثنا عن «المجاهد الأكبر» الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية «زعيم سابق لعصره» خلّد اسمه محررا للبلاد وللعقول، صاحب مشروع تحريري وتنويري جبّار خطّه باقتدار منذ مطلع فجر الاستقلال. يطول الحديث عن الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لازالت سياساته وتوجهاته تطرح الكثير من الإنبهار في النفوس وكذلك الكثير من الجدل والاشكاليات بالنظر للواقع والمحيط ودرجة الوعي في ذاك الزمن. كما كان للمؤرخين والنقاد النصيب الوافر من توجهات وسياسة بورقيبة كمادة للبحث والنقد سعيا للوقوف عند تجلياتها واستخلاص الدروس منها بأمالها وانكساراتها.

معارك بالجملة

في هذا السياق يرى المؤرخ الدكتور عبد الجليل التميمي أن المتتبع لفكر بورقيبة وتكوينه وسلوكه منذ عودته من فرنسا أيام الكفاح ضد الاستعمار، يرى منه رجلا استثنائيا برؤيته للغرب وبثقافته العميقة بالفلسفة الغربية التنويرية وبحضوره المعارك الصحفية والسياسية مما كان له الأثر الشديد على شخصية بورقيبة بحيث بنت لديه سياسة جديدة، لتتحول فيما بعد الى منهج عمل : اعجاب بحضارة فرنسا ورفض لسياستها الاستعمارية وهو ما لخّصه في مقولته الشهيرة «اخراج فرنسا عبر فرنسا». فمن الاجتهادات الريادية للحبيب بورقيبة التي لا يمكن للذاكرة الوطنية أن تنساها على مر العصور ذلك المشروع التحريري والاصلاحي غداة الاستقلال حيث ارتقى به الى مرتبة المصلحين العظام مهما اختلفت الأراء يتعلق بتقييم الجوانب الاخرى من عمله النضالي أثناء الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي أو من توجهاته السياسية الأخرى وطريقة تسييره لدواليب الدولة التونسية من 1957 الى غاية نوفمبر 1987.
سرعان ما انتخب الزعيم الحبيب بورقيبة رئيسا للحكومة وقام منذ الوهلة الأولى بعمل جبّار بتونسة كل أجهزة الادارة التونسية بما توفر لديه من عزيمة من التفّ حوله من الشباب المتحمس لمشروعه وبدأت بشائر الاصلاح والبناء لدى بورقيبة الحامل لمشروع تحديثي تقدمي للشعب شرع فيه بشجاعة أياما فقط بعد توليه زمام القيادة بإصدار مجلة الأحوال الشخصية التي جمّعت كل ارادات الاصلاح التي حلمت بها أجيال من المصلحين.

سبق في الحداثة

مجلة الأحوال الشخصية كانت بمثابة المفاجأة التي أحدثها بورقيبة داخل المجتمع التونسي بالنظر الى فحواها وما تحمله من أحكام كانت معارضة لجملة من العادات والتقاليد التي كانت بمثابة المعتقدات والقناعات الراسخة في العقول بحيث كانت الدعوة للتخلّي عنها تستوجب شجاعة كبيرة. حيث ضمّن الحبيب بورقيبة قانون الاحوال الشخصية منع تعدد الزوجات وكما جعل من المرأة شريكة للرجل في الحياة الزوجية حيث يعتبر المؤرخ الدكتور عبد الجليل التميمي أن الشعب التونسي كلّه مدين لبورقيبة فهو الذي راهن على التعليم المجاني وثقّف الشعب وأزال العروشية وكانت له نظرة استشرافية رائدة وبذلك يبقى مثالا يقتدى به في العالم بأسره.
في هذا الاطار يعتبر الأستاذ رضا الأجهوري أن ما جاءت به مجلة الأحوال الشخصية من أحكام متعلقة بمنع تعدد الزوجات وتنظيم الطلاق لدى المحكمة والغاء الحق في الجبر على الزواج واستبداله بحرية التعبير الشخصي عن الرضا لا يمكن أن نجد له تفسيرا خارج اطار هذا الرافد التحديثي الذي يمثل أرقى ما أبدعه العقل الإجتهادي المستنير في التعامل مع النصوص واستنباط الحلول الفقهية والاصلاحية. مجلة الاحوال الشخصية تعتبر أول قطرة من غيث الحداثة والرقي بالمجتمع التونسي. ثمّ كان لبورقيبة شرف التركيز على التعليم كأولوية مطلقة ببرنامج حكومته بتخصيص أكثر من ثلث الميزانية لمقاعد الدراسة لما من شأنه أن يحرر العقول وينفض عنها غبار الجهل والأمية، حيث كان هاجس الحبيب بورقيبة نشر نور العلم للبنين والبنات على حد السواء. حيث ما انفك بورقيبة يؤكد على ضرورة الاعتماد على العقل باعتباره المصدر الوحيد للمعرفة وهذا كثيرا ما تجلّى في خطبه حيث يقول «تسيير الأمور على هدى من العقل وهيهات أن يظل الطريق من كان العقل دليله ورائده». ثم هناك أمر لا ينبغي اغفاله تجسد في سياسة الحبيب بورقيبة وهو تنظيم الأسرة وسنّ سياسة صحة عائلية للأسرة والطفل وتركيز منظومة التلاقيح وتنظيم الانجاب بحيث تجنبت تونس خطر الانفجار الديموغرافي الذي حطّم في العديد من البلدان أياما من التقدّم.

بوادر ازدهار

وفي ذات الاطار الاصلاحي، سعى الحبيب بورقيبة الى تخليص البلاد من أثار الاستعمار، واضعا التحديث والتطوير في أوضاع البلاد نصب عينيه، بحيث عمل بعيد الظفر بالاستقلال على تفكيك البنية القبلية العروشية للمجتمع التونسي باعتبارها بؤرة ومصدر للفتن الداخلية وعائقا للوحدة الوطنية القائمة على المواطنة والانتماء للوطن.
في صلب المشروع الحداثي التقدمي للحبيب بورقيبة لا يمكن تجاهل ما شهدته البلاد زمن الستينات كذلك، بحيث كانت أعوام العز في الحياة الثقافية وفي الإبداع الفني، فبرز المسرح والموسيقى وكانت سنوات الإبداع. إن هذا المشروع الإصلاحي للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يجب أن لا يفهم الا في إطار سعي بورقيبة المحموم للحاق بركب التقدم بمعنى الالتحاق بمستوى التنمية والتقدم على جميع المستويات مقارنة بالبلدان الغربية. كيف للذاكرة الوطنية أن تنسى الحبيب بورقيبة محرر البلاد وصانع ملحمتيْ الجهادين الأصغر والأكبر. الجهاد الأصغر الذي تُوّج بتحرير البلاد من ربقة الاستعمار، والجهاد الأكبر الذي تمثل في تحرير افراد الشعب من الجهل والتخلف والتبعية والحاجة والفقر والمذلة؟ كيف للذاكرة الوطنية أن تنسى صاحب مشروع تحريري ارتقى بالبلاد إلى أعلى درجات الرقي وجعلها في الريادة مقارنة بما كانت عليه بلدان العالم العربي؟

سيف الدين عريبي
 طالب بكلية الحقوق والعلوم السياسية تونس المنار